حسن البنّا والكلمات والأشياء: التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي. الوحدة والوصف الأسطوري



حسن البنّا عز الدين ناقد حداثي من مصر، تخرّج من جامعة عين شمس عام 1974، ونال درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1986.
وهو عضو هيئة التدريس في كلية الآداب بجامعة الزقازيق.

ظهر في ميدان النقد في نهاية الثمانينات بكتابه (الكلمات والأشياء: التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي) 1989 الذي هو في الأصل رسالة الدكتوراه التي دافع عنها، تحت إشراف عز الدين إسماعيل.

والباحث، مثل غيره من النقاد والباحثين العرب، أخذ بعض المقولات البنيوية، وأهمل البعض الآخر، وسمّى (تقصيره) هذا "تطويراً"! فقال إنه "أخذ على عاتقه تطوير بعض مبادئ هذا النقد حتى يمكن الإفادة منه على أفضل وجه ممكن"! (ص11).
كما أضاف إلى (توفيقيته) هذه بعض المقولات الشكلية المستمدة من رينيه ويليك في كتابه (نظرية الأدب).

كما أورد أسماء بعض رواد المدرسة التفكيكية في النقد الأدبي أمثال: (جاك ديريدا) مؤسس المنهج التفكيكي، و (جوناثان كلر) J. Culler الذي كان ـ كديريدا ـ بنيوياً ثم تحول تفكيكياً.

كما عاد إلى المدارس التي سبقت البنيوية، وكانت أصلاً لها، من مثل: مدرسة (النقد الجديد) و (الشكلية الروسية)، فأنتجت هذه التوفيقية خلطة نقدية عجيبة، لا تحمل سمة البنيوية، ولا الشكلية، ولا غيرهما.
وإنما تحمل سمة صاحبها.

وقد استعرض الباحث (النظرة الشفاهية) لباري ولورد، كما عرض محاولات القدماء والمحدثين في وصف القصيدة الجاهلية، فرأى أن "صورة القصيدة الجاهلية في نقد القدماء كانت غامضة"! (ص44)، وأن المحاولات النقدية الحديثة شُغلت بمسألتين: قضية الوحدة، والوصف الأسطوري للقصيدة الجاهلية.

ففي قضية (الوحدة) لاحظ المحدثون افتقادها في القصيدة الجاهلية، ففسّر بعضهم ذلك بأنه نابع من مجرد شعورهم بالارتباط الباطن بين أجزاء القصيدة.

ورأى غيرهم غير ذلك، وهي مسألة تحتمل النقاش. أما قضية (الوصف الأسطوري) للقصيدة الجاهلية فقد عاد فيها الباحث إلى جهود المستشرقين والباحثين، فعرض كيف ربط ياروسلاف استيتكيفيتش بين القصيدة الجاهلية ببعدها الشعائري ومرحلة الانتقال التاريخية التي كان يمرّ بها المجتمع العربي آنذاك، كما عرض تصور (سوزان استيتكيفيتش) لعلاقة القصيدة الجاهلية بالشعائر، والذي يعتمد على طقس العبور بمراحله الثلاث، حيث طبّقت هذا التصوّر في دراستين عن لبيد وامرئ القيس (سوزان استيتكيفيتش ـ القصيدة العربية وطقوس العبور: دراسة في البنية النموذجية ـ مجلة (مجمع اللغة العربية) ـ دمشق مجلد 60 ج1).

وكانت (ماري كاترين باتسون) M. C. Bateson من أوائل الذين استخدموا التحليل البنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، وذلك في رسالتها (الاطّراد البنيوي في الشعر: دراسة لغوية لخمس قصائد جاهلية) حيث حلّلت معلّقات كل من امرئ القيس، ولبيد، وزهير، وطرفة، وعنترة.

وقد اهتمت بالمقطع، دون النظر إلى القصيدة بوصفها (كلاًّ)، وحصرت مجال التحليل اللغوي (الصوتي، والصرفي، والنحوي) بالمقطع وحده، وانتهت إلى أن المقطع يُعدّ قصيدة داخل القصيدة، أي أنه مرتبط بعلاقات داخلية أكثر من ارتباطه بعلاقات خارجية، كما انتهت إلى أن المقطع ذو حدود مشتركة مع (استغراق) الشاعر في موضوع ما.

وهذه هي جهود المستشرقين في (المنهج الأسطوري) لدراسة الشعر الجاهلي، ثم عرض الباحث جهود النقاد العرب في هذا المنهج، وعلى الخصوص كمال أبو ديب في كتابه (الرؤى المقنّعة: نحو منهج بنيوي لتحليل الشعر الجاهلي) 1986 حيث ركّز فيه على البنيات الموضوعية، ولمس جوانب تركيبية، وصوتية، وإيقاعية، معتمداً الثنائيات الضدية، وغير الضدية، ومستفيداً من منهج (بروب) في تحليل الحكاية الخرافية.

ثم انتقل الباحث إلى دراسة (الأنماط البنائية لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي) فاستنتج نمطين هما: نمط القصيدة الثنائية التي تشمل (وحدتين) مكونتين من المقدمة الطللية + وحدة الناقة أو الفخر أو المديح.

ونمط القصيدة الثلاثية التي تشمل ثلاث (وحدات) هي: المقدمة الطللية + وحدة الناقة + وحدة الفخر أو المديح. والواقع أن هذه (الوحدات) التي "اكتشفها" ليست سوى (الموضوعات) التي عالجتها القصيدة الجاهلية.

ثم تناول الباحث موضوع (النسيب) في المقدمة الطللية لدى النقاد القدماء (ابن سلاّم، وابن قتيبة، وقُدامة، وابن رشيق، وحازم القرطاجني) والمحدثين (عز الدين إسماعيل الذي رأى أن تفسير ابن قتيبة لم يكن كافياً (عز الدين إسماعيل ـ النسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية في ضوء التفسير النفسي ـ مجلة (الشعر) ـ فبراير 1964 ص6).

وأخيراً ينتهي الباحث إلى (تحليل بنائي للمقدمة الطللية) فيتناول مسألتين: (الحوار) الطللي، و (الصور). فالحوار يمثل ـ عنده ـ ظاهرة جوهرية في قصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي، وصيغة السؤال تتصدّر مئة وسبعاً وعشرين قصيدة ومطلعاً طللياً، في حين تتصدّر الصيغة الخبرية أربعاً وثمانين قصيدة ومطلعاً طللياً.

ولكن (السؤال) هنا لا يُقابل (الجواب) بالمعنى الدارج، فالشاعر لا يسأل أحداً معيّناً، ولا يطلب جواباً.
وأما (الصور) والتشبيهات فأكثرها شيوعاً هي تشبيه الطلل الدارج بالكتابة، وبالوشم، وبالثياب البالية، والملاحظ أن هذه التشبيهات جميعها تنتمي إلى (الحضارة)/ مقابل المشبّه به (الطلل) الدارس الذي ينتمي إلى (الطبيعة).

وهذه الجدلية التي ينسجها الشاعر تجد تفسيرها في قانون (القلب المتناسق) الذي أشارت إليه (سوزان استيتكيفيتش) في دراستها للقصيدة العربية بما هي بنية نموذجية، بوصفه تعبيراً رمزياً عن وجود الشاعر والقصيدة والطلل جميعاً في حالة (عبور) بشكل كلي.

و(العبور) مأخوذ من الإغريق القدماء الذين كانوا يعبّرون عن الانتقال من الطفولة إلى البلوغ في الشعائر والأساطير.
والشاعر إذ يعاني الشيب في المقدمة، يجعله أشبه بالطفل، فيحاول أن يقاوم هذا الشعور بتذكر أيام الشباب.

وكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث (الطفولة، الشباب، الشيخوخة) تنطوي على ما هو محبوب وما هو مكروه: ففي الطفولة براءة/ وضعف، وفي الشباب قوة/ ونزق، وفي الشيخوخة حكمة/ وضعف.

ولعله من المحال أن يجمع المرء بين أجمل ما في هذه المراحل الثلاث: البراءة، والقوة، والحكمة.
ولكن الباحث لم يحلل قصيدة أو مطلعاً طللياً تحليلاً بنيوياً، ولم يصل إلى نتائج تحليل وصفي بنيوي.

واكتفى بعرض آراء المستشرقين والنقاد المعاصرين في الشعر الجاهلي وقضاياه، فناقش بعضها، دون أن يشير إلى المنهج البنيوي الذي زعم أنه يتبنّاه.

ولعله كان يدرك هذا فلم يذكر المنهج في الطبعة الأولى لكتابه عام 1988، حيث عنونه بـ (الكلمات والأشياء: بحث في التقاليد الفنية للقصيدة العربية).

ولكن عندما شاعت (البنيوية) واهتمّ الدارسون العرب بها، أراد أن يضعها (طعماً) للقارئ في عنوان كتابه في طبعته الثانية عام 1989، فجعل العنوان الفرعي لكتابه (التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي)، مستبعداً وصف (العربية) لشموله، في حين كان موضوعه مقتصراً على الشعر الجاهلي، إضافة إلى مغالطته في مصطلح (قصيدة الأطلال) إذ ليس هناك من قصيدة مستقلة للأطلال في الشعر الجاهلي، وإنما معظم القصائد الجاهلية تبدأ بـ (مقدمة) طللية، ولو أنه استبدلها بـ (المقدمة الطللية) لكان أقرب إلى الدقة والموضوعية.